وبعدُ عزيزي القارىء :
هذه الحِكَم والمواقف والمخاطبات هي من أدبيات ( العلاقة بين العبد وربّه ) ، والأدبيّات ليست عِلْمًا له حدوده ونصوصه التي لا محيد عنها ( كعلم الحديث مثلا ) ، وليست علمًا بمعنى العلم الذي يقود إلى العمل في خطوط مستقيمة ومسارات محددة سلفًا لا بد من السير فيها ( كعلم الفقه مثلا ) ، فعلم الحديث أساسه إسناد الحديث (العنعنة ) ومتن الحديث ومعرفة أحوال الرجال ، وهو ما عُرِف بعلم الجرح والتعديل ، أما علم الفقه فأساسه إعمال العقل في متون النصوص الدينية من قرآن وسنة بعد أن يكون المشتغل بذلك قد وصل إلى درجة متقدمة من الدراسة والدراية بعلوم أخرى كثيرة كالنحو والبلاغة والتفسيروالحديث …. إلخ
أما الأدبيات فتختلف عن العلوم البحتة في أنها هي التي تحَرِّضُ على العمل بالعلم ، وهي التي ترسم للقلوب أحلامها ورغباتها وتَوَجّهاتها ، ولنضرب مثلا لنُفرِّق به بين العلوم والأدبيات ، والمثل هو الجهاد ، فالجهاد كعلمٍ : يتناوله الفقه ليحدد الظروف التي تبيّن متى يكون الجهاد واجبًا ومتى يكون فرض كفاية ومتى يكون فرض عين ومتى يكون مستحبًا ومتى يكون مندوبًا إليه … إلخ ، وبهذا يصبح الجهاد في حد ذاته جزءًا من علم الفقه ، أما أدبيات الجهاد فتتمثل فيما يتغنى به الشعراء في مدح المجاهدين ، وفي حكايات المجاهدين عما قاموا به من صنوف البطولة والشجاعة في ميادين الحروب ، وحتى في مدح السيوف التي أسعفتهم للقيام بما قاموا به من البطولات … إلخ ، إن أدبيات الجهاد تبث في النفوس الرغبة فيه ، وتبث الشوق إلى لقاء العدو غير مبالية بما سوف تلاقيه من صعوبات في سبيل القيام بنُصرة الدين أو نصرة الوطن .
مما تقدم يتبيّنُ أن الأدبيات لها الدور الذي لا غِنًى عنه في تحريك القلوب والمشاعر وتوجيهها إلى الوجهة التي يُحِبّ الأديب أن يوجّه إليها قلوب المتأدّبين .
وهكذا فإن كل مجال من المجالات له : ( 1 ) علم يحدده ويضبطه ويقوم بصياغة النظريات التي ينبني عليها هذا المجال ، وله أيضًا ( 2 ) أدبيات توجّه القلوب إليه وتحرك المشاعر نحو تحقيقه .
قلنا قبل قليل أن هذه الحِكَم والمواقف والمخاطبات التي سقنا أمثلة منها للإمام ابن عطاء الله السكندري ، والإمام النّفّري هي من أدبيات ( العلاقة بين العبد وربّه ) ، والأدبيات دائمًا لا يتم إنتاجها إلا بعد أن يكون صاحبها قد مر بالتجربة وعاش معاناة الخوض في المجهول ، وذاق مرارة الصبر على المجاهدة حتى أينعت أشجاره وطابت له ثماره وتذوّق طعم الراحة بعد العناء ، فأحَبّ أن ينقل إلى غيره تجربته لأنه فرح بثمرتها ولأنه يرى أن مِن شُكْرِ نعمة الله عليه أن يُحدّث بها عباده ، وردود أفعال الناس في استقبال مثل هذه التجارب تختلف باختلاف النفوس الإنسانية ( فهناك نفس أمّارة بالسوء ، وهناك نفس لَوّامة ، وهناك نفس مُطْمَئِنّة ) فأصحاب النفوس المُظْلِمة الأمّارة بالسوء يصعب عليهم التصديق بأن العلاقة بين الله وعباده يمكن أن تصل إلى هذه الدرجة من القرب بحيث يكون العبد موصولا بربه ، متلقّيَا منه ، فاهِمًا عنه ، يُلْهِمه ربه الحكمة ، ويخاطبه عن طريق ملائكته بما فيه مصلحته .
أما أصحاب النفوس المطمئنة فنظرًا إلى أنهم تذوّقوا من قبلُ رشفاتٍ من خمرة الحب ، وتَنَعّموا من قبلُ بنفحات من القُرب الإلهي ، فإنهم يفهمون كلام هؤلاء الأئمة ، ويتذوقون معانيه ، ويتلذّذون بسماعه وقراءته كما يتلذّذ المحبون بسماع خطاب الأحبة .
قال تعالى : ” يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يشاء ، ومَن يُؤْتَى الحِكْمَةَ فقد أُوتِيَ خيْرًا كثيرا ”