1... فتح العِبارة
إن أهل الله يُطلقون كلمة ( الفتوحات ) على ما يُكرمهم الله به من العطاءات الربانية والنفحات الإلهية نتيجة لقيامهم مقام الإحسان في العبادة ، فتجد أنهم يُطلقون على الكتب التي يُؤلّفونها ، والرسائل التي يُدونونها أسماء مثل : “الفتح الرباني ” أو “ الفتوحات الإلهية ” أو” الفتوحات المكية ” أو“فتوح الغيب” وغير ذلك.
وكلمة الفتح لها معانٍ عدّة تضمّنتْها نصوص كثيرة من الشريعة ، قال تعالى : ” إنّا فتحنا لك فتحًا مُبينًا “ أي قضينا لك فتح مكة وغيرها في المستقبل ، فهي هنا بمعنى القضاء . وقال تعالى : ” إن تسْتفتِحوا فقد جاءكم الفتح “ أي إن تطلبوا الحكم بينكم وبين هذا النبي ( محمد صلى الله عليه وسلم ) فقد جاءكم الحكم وهو انتصاره عليكم . وقال تعالى : ” ما يفتحِ اللهُ للناسِ من رحمةٍ فلا مُمْسِكَ لها “ أي : إن يقضِِ الله ويُقدّر للناس من رحمة فلا راد لقضائه . فكلمة الفتح هنا بمعنى القضاء والتقدير. وقال الله تعالى عن اليهود مستنكرًا معاندتهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم : ” وكانوا مِن قَبْلُ يستفتِحون على الذين كفروا ، فلمَّا جاءَهُم ما عَرَفوا كفروا به “ أي أن اليهود كانوا يدْعون الله أن ينصرهم على أعدائهم متوسلين إلى الله بهذا النبي الذي وعدهم الله أن يبعثه آخر الزمان ، فلما جاءهم هذا النبي أنكروه وعاندوه ، فكلمة الفتح هنا جاءت بمعنى طلب النصر . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة العظمى يوم القيامة : ” فأنطلِقُ فآتي تحت العرش ، فأقعُ ساجدًا لربّي ، ثم يفتح الله علََيَّ من محامده وحُسْن الثناء عليه شيئًا لم يفتحْه على أحد من قبلي ” . فكلمة الفتح هنا تعني ما يفيض الله على عبده من عطاءات الإحسان .
وكلمة الفتح في كل هذه المعاني تشير إلى أن شيئا كان مطلوبًا حدوثه ووقوعه ، وبالفتح يتم وقوعه وحدوثه .
أما ما تعنيه كلمة الفتح في طريق أهل التصوف بشكل خاص ، وعند المؤمنين بشكل عام ، فيُقصدُ بها : ما يُفيض الله به على عباده المخلصين من عطاءات الإحسان وثمار المجاهدة مثل : المقامات والأحوال والكرامات المعنوية والحسّيّة ، المقامات التي يُوصّلُهم الله إليها من الشكر والصبر والمحبة والمعرفة بالله والخوف منه والشوق إليه ، ومثاله ما أشرنا إليه في حديث الشفاعة الكبرى .
ولهم في الفتح كلام كثير ونفيس ، فهم يقسّمونه ( أي الفتح ) إلى نوعين :
أولهما فتح العبارة ،
وثانيهما فتح الكرامة .
ورغم أن النوعين يعودان في الأصل إلى معنى واحد هو ما يُكرم الله به عباده من عطاءات الإحسان ، إلا أنهم أنشأوا هذا التقسيم للتفرقة بين نوعين من إكرام الله لهم فقالوا أن :
فتح العبارة
: هو ما يُلقيه الله في قلوبهم من الحكمة وحُسن العبارات التي تدخل قلب مَن يستمع إليهم أو يقرأ لهم ، أو يُلهمهم الله بعض الأدعية في أوقات مخصوصة لمواقف مخصوصة يكون من نتيجتها تفريج كرب أو إزالة هَمّ أو إيذانًا برفع درجة العبد ….إلخ ، وسوف أختار رجلين من هؤلاء الرجال الذين فتح الله عليهم بفتوح العبارة وأقتطف من كلامهما ما يدل على ما قلته ويوضح المعنى المقصود من فتح العبارة :
- مما يدُلك على وجود قهره سبحانه ، أنْ حَجَبَك عنه بما ليس موجودًا معه ( مثل الزوجة والولد ) .
- ما توقفَ مطلبٌ أنت طالبه بربك ، ولا تيسّرَ مطلبٌ أنت طالبه بنفسك .
- من علامات النجاح في النهايات الرجوع إلى الله تعالى في البدايات .
- مَنْ أشرقتْ بدايته أشرقتْ نهايته .
الأول : الإمام ابن عطاء الله السكندري .
يقول في حِكَمِه العطائية :
- سوابق الهِمَم لا تخرق أسوارالأقدار .
- أرِحْ نفسك من التدبير ، فما قام به غيرُك عنك لا تقم به لنفسك .
- لايكنْ تأخُّر أمدِ العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا لِيأسِك ، فهو الذي ضمِنَ لك الإجابة فيما يختاره لك ، لا فيما تختارُه لنفسِك ، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد .
- ما نفع القلبَ شيءٌ مثل عُزلةٍ يدخل بها ميدانَ فكرة .
- الكونُ كله ظُلمة ، وإنما أنارَهُ ظهورُ الحق فيه ، فمن رأى الكونَ ولم يشهدْه فيه ( أي لم يشهد اللهَ فيه ) أو عنده ، أو قبله ، أو بعده ، فقد أعوَزَه وجودُ الأنوار ، وحُجِبَتْ عنه شموس المعارف بسحب الآثار .
وهذا بعض ما أُثِر عن ابن عطاء الله السكندري من المناجاة :
- إلهي أنا الفقير في غناي ، فكيف لا أكون فقيرًا في فقري ؟ ؟ إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جاهلا في جهلي ؟ إلهي إن اختلاف تدبيرك وسرعة حلول مقاديرك منعا عبادك العارفين بك عن السكون إلى عطاء ، واليأس منك في بلاء ، إلهي مِنِّي مايليق بلُؤْمي ، ومنك ما يليق بكرمك . إلهي وصفْتَ نفسك باللطف والرأفة بي قبل وجود ضعفي ، أفتمنعُني منهما بعد وجود ضعفي ؟ إن ظهرتْ المحاسنُ منِّي فبفضلك ولك المِنَّةُ عليْ ، وإن ظهرتْ المساويء فبعدلك ولك الحُجَّة عليّ . إلهي كيف تكِلُني إلى نفسي وقد توكّلْتُ عليك . وكيف أُضامُ وأنت الناصر لي ؟ أم كيف أخيبُ وأنت الحفِيُّ بي ؟ ها أنا أتوسل اليك بفقري إليك .
والمثال الآخر
الإمام محمد بن عبد الجبار بن الحسن النِّفري
يقول النفري في كتابه الشهير ” المواقف والمخاطبات ” :
- عن الإسلام يقول الله لعبده : هو أن تُسْلِمَ إليَّ بقلبك ، وتُسْلِم إلى الوسائط ببدنك ، أن تكون معي بهمِّك ، ومع الوسائط بعقلك … فتكون دائمًا مجموع الهمَّ عليَّ ، لا حظَّ لغيري فيك إلا حضورك معه بعقلك فقط … فلا تأسَ على ما فاتك ولا تفرح بما آتاك ، ولا تغضب ممن أساءك إليك ، ولا تَزْهُ بنجاحك ، ولا تفتخر بمكانك ولا تتكبر بعلمك ، ولا تغترَّ بنعمتي ولا تيأس لبلائي ، ولا تستقرَّك المستقرات من دوني … هو أن تمضي لما أمرتُك دون أن تُعقِّب فيكون شأنك شأن ملائكة العزائم ، إن انتظرتَ لأمري علمَك لأمري ، فقد عصيت أمري ( أي : إذا توقفت عن عمل ما أمرتُك به حتى تعلم الحكمة منه فقد عصيتني ) .
يقول الله لعبده :
- يا عبد إذا ضيَّعتَ حكمة ما تعلمُ ، فما تصنع بعلم ما تجهل ؟!
- يا عبد .. لولا صمودي ما صمدتَ ، ولولا دوامي ما دُمتَ .
- يا عبد .. الحُزْنُ عليَّ هو الحزن بحق .
- يا عبد .. أنا أوْلى بك مما أُبدي ، وأنت أولى بي مما أُخفي .
- علامة مغفرتي في البلاء أن أجعله سببًا لعلم .
- عذرتُ من أجهلتُه بالجهل ، مكرتُ بمن أجهلتُه بالعلم .
- يا عبد .. لو أعلمتُك ما في الرؤية لحزِنْتَ على دخول الجنَّة ( أي أن رؤية الله تعالى أفضل من دخول الحنة ) .
- أنا يُستَدلُّ بي ولا يُستَدلُّ عليّ .
- من علامات اليقين الثبات ، ومن علامات الثبات الأمنُ في الروع .
- مَن عَبَدَني من أجل وجهي دام ، ومَن عبدني خوفًا من عقابي انقطع ، ومن عبدني طمعًا في نعمتي انقطع .
- إن أكلْتَ من يدي لم تُطِعْكَ جوارحُك في معصيتي ( أي : إذا آمنت وتيقّنتَ أن النعمة مني وشكرتني عليها لم تُطِعْكَ جوارحُك في معصيتي ) .